الحديث عن الدعاية السياسية يعود بقوة في أوقات الحروب عندما تبلغ الحرب الإعلامية أوجها. وتستعمل الجماعات و الهيئات والدول وسائل الإعلام بمختلف أنواعها لنشر وشرح أفكارها وبرامجها للرأي العام الداخلي والخارجي. ولأهميتها حازت الدعاية (البروباغندا) على اهتمام واسع من طرف السياسيين والأكاديميين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة ما بين الحربين العالميتين التي شهدت استعمالا منقطع النظير للبروباغندا بالموازاة مع تطور وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية-البصرية. ولا تخرج الحروب الأخيرة في الشرق الأوسط عن هذه القاعدة إذ جهز كل فريق مشارك فيها آلته الدعائية لكسب “معركة القلوب” في الداخل والخارج. ولا شك أن “الهاسبارا” – التي تهتم بشرح وتوضيح سياسات الحكومات الإسرائيلية للرأي العام – تشكل أقوى آليات الدعاية التي تشهدها الحروب المعاصرة وأكثرها تعقيدا.
تلجأ الدول في أوقات الحرب إلى آليات مختلفة لتسويق وجهة نظرها للرأي العام الداخلي والخارجي. ففي حربه على العراق على سبيل المثال، ابتكر الجيش الأمريكي ما يمكن تسميته “بالصحافة المحمولة” (Embedded journalism) إذ يرافق الصحفيون العساكر على ظهر الدبابات ولا يرون إلا ما يُسمَح لهم برؤيته. ولهذا فغالبا ما تكون القصص التي ينقلونها للناس مستوحاة من روايات الضباط الذين يرافقونهم وهو ما يمكن تفسيره على انه نوع من البروباغندا.
لكن الحروب الأخيرة أثبتت أنه بات من الصعب الإعتماد على الصحفيين الذين يرافقون الجيش لإثبات الرواية الرسمية التي يريد المتحاربون إيصالها للجماهير بالنظر للتطور الهائل لوسائل الاتصال المتاحة للناس في ساحات المعارك. وكغيرها من الدول والجماعات المنخرطة في الحرب، تعمد القوى الفاعلة في إسرائيل على تحريك جهاز “الهاسبارا” أو “العلاقات العامة” لكسف التعاطف الدولي. أما الجديد في الحروب الحالية فهو صعوبة إجراء تعتيم كلي لمجريات الأحداث نظرا للاهتمام البالغ الذي تحتله الفلسطينية في المؤسسات الإعلامية من جهة، ومن جهة أخرى التطور الكبير لوسائل الإعلام السمعية-البصرية ووسائل الاتصال الاجتماعي عبر الأنترنيت التي جعلت من كل مواطن ناقلا للأحداث والصور من ساحات الحرب. فبالإضافة إلى الدعاية التقليدية عبر الصحف وقنوات الراديو والتلفزيون، لجأت إسرائيل إلى تفعيل ماكينة “الهاسبارا” عبر وسائل الاتصال الاجتماعي كتويتر وفايسبوك. والجيش الإسرائيلي من الجيوش الأوائل في العالم التي فتحت حسابات لها على هذه المواقع للتوجه مباشرة للجماهير ولوسائل الإعلام الأخرى. وفي حربها الأخيرة على غزة لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى تسويق مكثف للرواية الرسمية في جميع وسائل الإعلام وغزا “جنود الهاسبارا” كل وسائل الاتصال الاجتماعي لإيصال أفكار يمكن تلخيصها في أن “حماس منظمة إرهابية لا تقبل السلام – الفصائل الفلسطينية تتخذ من المدنيين ذروعا بشرية وهذا ما يفسر الأعداد الهائلة للضحايا المدنيين – الفلسطينيين إرهابيين يحاولون إزالة إسرائيل من الخارطة – إسرائيل تدافع عن نفسها وعلى الجميع مساندتها لأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” … الخ.
لكن الفصائل الفلسطينية لها أيضا استراتيجيتها الخاصة لمواجهة “الهاسبارا” الإسرائيلية. فهي تسمح للصحفيين الأجانب بتغطية الحرب في غزة مما يساهم بصيغة غير مباشرة في إعطاء وجهة نظر أخرى للأحداث الجارية هناك عن طريق المؤسسات الإعلامية الدولية التي تملك مراسلين في القطاع. ونظرا لطبيعة الحرب هناك – إذ أن الفصائل المقاتلة تقود حرب عصابات غير تقليدية – فإنه من غير الممكن لهذه الجماعات أن تلجأ في حربها الدعائية لما يسمى “بالصحافة المحمولة” لنشر روايتها للحرب. لكن صور الضحايا المدنيين والتدمير الهائل للأحياء السكنية كان لها تأثيرا بالغا على الرأي العام الدولي وساهم في التقليل من فعالية “الهاسبارا” الإسرائيلية وربما دفعت الأطراف المتحاربة إلى إيجاد مخرج عن طريق التفاوض.
والدعاية عبر وسائل الإعلام ليست حكرا على الدول والجماعات المتحاربة، بل تجري على الدوام وبسلاسة عبر وسائل الإعلام، خصوصا في الدول غير الديمقراطية التي لا تسمح بالتعددية الإعلامية والسياسية. أما أبطالها فقد يكونوا شخصيات نافذة في الإعلام أوالدين أوالسياسة أوالفنون. وهذا ما سنتعرض له في مقال لاحق.
الجزائر.نت
ا